طالب العبد المحسن… سلاحاً بيد اليمين المتطرف

حادثة هزّت ألمانيا عن بكرة أبيها. نفّذ الطبيب النفسي السعودي هجوماً دامياً على سوق عيد الميلاد في ماغدبورغ، مخلفاً خمسة قتلى وأكثر من 200 جريح. وبينما تتكشف خيوط التحقيقات، تبرز معلومات حول كرهه للإسلام وصلاته بتيارات يمينية وبعمالقة التكنولوجيا الذين يغذّون النزعات الشعبوية والميول المتطرّفة
وُلِد طالب العبد المحسن في مدينة الهفوف السعودية عام 1974، وانتقل إلى ألمانيا عام 2006. حصل على حقّ اللجوء في عام 2016 بعدما ادّعى تعرضه للاضطهاد بسبب آرائه المناهضة للإسلام. بصفته طبيباً متخصصاً في الطب والعلاج النفسيين، عمل في ألمانيا سنوات عدة، واستخدم منصبه وحضوره في المجتمع الألماني للتعبير عن أفكار معادية للإسلام والمهاجرين، مستغلاً حسابه على منصة «إكس» والإعلام الألماني لنشر خطاب كراهية وانتقادات حادة لسياسات الهجرة الألمانية. علماً أن ألمانيا ـــ بحسب الإعلام السعودي ـــ تجاهلت ثلاثة تحذيرات سعودية عن العبد المحسن.
في مقابلة مع صحيفة «فرانكفورتر الجماينة» عام 2019، وصف العبد المحسن نفسه بأنه «أشد ناقد للإسلام في التاريخ»، وأشار إلى مبادراته لمساعدة السعوديين في طلب اللجوء، بينما هاجم سياسات ألمانيا التي زعم أنها تهدف إلى «أسلمة أوروبا». ولم تكن هذه التصريحات سوى بداية نشاطه العلني الذي بلغ ذروته في هجومه الأخير.
تكشف قضية العبد المحسن عن تحوّل عميق في المشهد السياسي والأيديولوجي المعاصر، فيبرز أمامنا نموذج فريد لطبيب نفسي تحول إلى مناصر متحمّس لحزب «البديل من أجل ألمانيا» (AFD) اليميني المتطرف. هذا الحزب، الذي يحتل المرتبة الثانية في الساحة السياسية الألمانية حالياً، تأسس عام 2013 كحركة معارضة لسياسات الإنقاذ المالي في منطقة اليورو، معبّراً عن رفضه لخطط الإنقاذ الأوروبية التي دعمتها الحكومة الألمانية آنذاك.
مزج بين الإلحاد والصهيونية والتوجهات اليمينية المتطرفة، مع إعجاب خاص بإيلون ماسك
مع مرور الوقت، تحول تركيز الحزب نحو قضايا الهجرة واللجوء، وخصوصاً بعد قرار المستشارة السابقة أنجيلا ميركل في عام 2015 بفتح الحدود أمام اللاجئين. وفي الانتخابات الفيدرالية لعام 2017، حقق AFD اختراقاً كبيراً بدخوله البرلمان الألماني (البوندستاغ) للمرة الأولى، حيث حصل على نحو 13 في المئة من الأصوات، مستفيداً من المخاوف المتعلقة بأزمة اللاجئين. وفي أيلول (سبتمبر) 2024، حقق الحزب نتائج تاريخية في الانتخابات المحلية بشرق ألمانيا، إذ حصل على ما يُراوح بين 30.5 و33.5 في المئة من الأصوات في ولاية تورينغن، ليصبح أقوى حزب في الولاية، وحلّ ثانياً في ولاية ساكسونيا بفارق ضئيل عن «الحزب الديموقراطي المسيحي». يُعدّ «البديل من أجل ألمانيا» حزباً يمينياً شعبوياً، وتُصنّف بعض فروعه متطرفة من قبل أجهزة الاستخبارات المحلية في بعض الولايات الألمانية.
عبر منصة «إكس»، قدم العبد المحسن نموذجاً لظاهرة التحول الفكري المعقّد، فمزج بين الإلحاد والصهيونية والتوجهات اليمينية المتطرفة، مع إبداء إعجاب خاص بشخصية إيلون ماسك، الذي يمثل بدوره نموذجاً للتأثير التكنولوجي المتداخل مع السياسة. هذا التقاطع بين التكنولوجيا والسياسة والأيديولوجيا يشكل ظاهرة جديدة في عصر المنصات الرقمية، إذ تتشكل القناعات السياسية عبر تأثيرات متعددة المصادر، ويخلق تحالفاً عابراً للحدود بين اليمين المتطرف وأباطرة التكنولوجيا، يستغله ماسك لاختراق الفئات الاجتماعية المتعلمة.
لم يقتصر دعم ماسك لهذه الأفكار على التغريدات. بل تعدى ذلك إلى الترويج لفكرة أنّ سياسات الهجرة تؤدي إلى اضطرابات اجتماعية. في المملكة المتحدة، ألقى العديد باللوم على ماسك في إذكاء نار التوترات خلال فترة الاضطرابات الأخيرة هناك. اضطرابات أوقد النار تحتها المؤثر اليميني والكاره للإسلام تومي روبنسون، الذي يُتهم بتحريضه على الشغب المعادي للهجرة في المملكة المتحدة، والذي حصل على دعم كبير من إيلون ماسك ومنصته «إكس». فقد أعاد ماسك حساب روبنسون في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، ما منح الأخير فرصةً للتعبير عن آرائه المتطرفة. في وقت اندلاع الشغب في المملكة المتحدة، أشاد روبنسون بماسك خلال ظهوره في برنامج «أليكس جونز شو»، مؤكداً على أنّ ماسك أعطاه «صوتاً للحقيقة». عبر «إكس»، وسّع ماسك تأثير روبنسون بشكل كبير. فقد ردّ على منشورات روبنسون وانتقد اعتقاله بموجب قوانين مكافحة الإرهاب، ما ساعد في نشر آرائه إلى ملايين المتابعين. كما سمح ماسك بعرض فيلم روبنسون الممنوع، ما أضاف إلى عدد مشاهداته. من جهة أخرى، انتقد ماسك، الذي يعيش على بُعد آلاف الأميال عن شوارع مدن المملكة المتحدة، الوضع في البلاد قائلاً إنّ «الصراع أمر لا مفرّ منه» إذا جُمعت ثقافات غير متوافقة من دون اندماج. هذه التصريحات، التي اعتبرها كثيرون استفزازيةً، زادت من انقسامات المجتمع البريطاني، ما أسهم في الفترة الماضية في تصعيد الأوضاع وتفاقم العنف. علماً أن الحكومة البريطانية طالبت بمحاسبة ماسك ومنصة «إكس» على دورها في إثارة الفوضى في المملكة المتحدة.
أما في ألمانيا، فقد أُضيف دعم ماسك لحزب AFD إلى قائمة طويلة من الانتقادات الموجهة إليه، إذ يعتبر عديدون أن مواقفه تزيد من حدة الانقسامات الاجتماعية والسياسية. وفي سياق الهجوم الإرهابي الأخير، من اللافت أنّ روبنسون يتابع حساب العبد المحسن على «إكس». وتُعد هذه العلاقة دليلاً على تشابك شبكات التطرف اليمينية في أوروبا، حيث يتبادل المتطرفون الدعم والأفكار عبر منصة «إكس».
من جانب آخر، أتى الهجوم في وقت حساس، إذ تستعد ألمانيا لانتخابات حاسمة في شباط (فبراير) المقبل بعد انهيار الائتلاف الثلاثي. مع تصاعد المخاوف من تأثير الهجرة على الاقتصاد والأمن، يُتوقع أن يُستخدم الهجوم بمثابة ورقة ضغط من قِبل الأحزاب السياسية، وخصوصاً حزب «البديل من أجل ألمانيا»، الذي سيستغل هذه الأحداث لتأجيج المخاوف بين المواطنين وتعزيز سردية أنّ ألمانيا مهددة من الداخل والخارج، وتمنحه فرصةً لتصعيد مطالباته بفرض سياسات أكثر تشدداً، ما يزيد من شعبيته في استطلاعات الرأي. وفي الوقت نفسه، سيستخدم الحزب هذه الأحداث كأداة للتشكيك في الأحزاب التقليدية واتهامها بالتقاعس، وهو ما يعزز من روايته بأنه البديل الحقيقي والدواء السحري لأمراض ألمانيا.
إنها أيام تشبه إلى حد بعيد مرحلة صعود «الرسّام النمسوي» قبيل الحرب العالمية الثانية، عندما استغل الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي كانت تعصف بالمجتمع ليتسلق درجات السلطة. ففي تلك الحقبة، كانت أوروبا غارقة في الفوضى والاضطرابات، وفي خضم هذا الظلام، برع «الرسّام» في استثمار مشاعر القلق والانكسار التي كانت تسيطر على الناس. استخدم خطاباً شعبوياً موجهاً تلك المشاعر نحو أعداء داخليين وخارجيين، ووعد بحلول غير واقعية، مستغلاً غرائزهم الوطنية وأعمق تطلعاتهم، ليغذي أوهامهم ويقودهم نحو مستقبل مظلم لم تشف ألمانيا من تبعاته حتى اليوم. كل ذلك وهناك من يصرّ على أنّ لكل فترة رسّامها.
المصدر علي عواد الاخبار