ألمانيا إلى انتخابات مبكرة: نهاية متوقّعة لائتلاف فاشل
لندن | أقرّ المستشار الألماني، أولاف شولتس، بفشل مشروعه في السلطة، ودعا نواب البوندستاغ (البرلمان) إلى إسقاط حكومة ائتلاف الأقلية التي تجمع إلى حزبه “الاجتماعي الديمقراطي” (يسار الوسط)، حزب “الخضر”، وذلك في الجلسة التي خُصّصت للاقتراع على الثقة بالحكومة. وقد حصل شولتس على مراده، إذ صوّتت أغلبيّة 394 نائباً ضدّ حكومته، في مقابل 207 معها، فيما امتنع 116 نائباً عن الإدلاء بأصواتهم. وقال شولتس للنواب قبل دعوتهم إلى الإدلاء بأصواتهم، إنه يريد إسقاط الحكومة الحالية بغرض دفع الانتخابات الفدرالية إلى الأمام، حيث “يتعلّق الأمر بالثقة في بلدنا، وعدم تعريض مستقبلنا للمخاطر”، مؤكداً أن “أفضل أيام ألمانيا لا تزال أمامنا تنتظرنا”.
وتمهّد هذه الهزيمة لأول تجربة ائتلاف ثلاثي في الحكم منذ تأسيس ألمانيا الجديدة بعد الحرب العالمية الثانية، إلى حلّ البرلمان، والتوجّه إلى انتخابات تشريعية مبكرة من المقرَّر إجراؤها في الـ23 من شباط من العام المقبل. وقد التقى شولتس بالفعل الرئيس فرانك فالتر شتاينماير ليطلب إليه إصدار الأوامر الرسمية بحلّ البرلمان، والدعوة إلى انتخابات في غضون 60 يوماً، وفق ما ينصّ عليه دستور البلاد. وإلى حينه، سيبقى شولتس في منصبه رئيساً لحكومة تصريف أعمال – لا يمكنها على أيّ حال تمرير تشريعات جديدة أو اتّخاذ قرارات مهمّة -، إلى أن يتمّ تشكيل حكومة جديدة بعد الانتخابات.
وكان شولتس أطلق شرارة تغيير مستحقّة للسلطة في أكبر اقتصاد أوروبي، عندما أقال وزير ماليته كريستيان ليندنر، زعيم حزب “الديمقراطيين الأحرار الليبراليين”، الشريك الأصغر في الحكومة، بعد أشهر من تناحر مكوّنات الحكومة المفتقدة للانضباط، وعجزها البنيوي عن إدارة الانعكاسات السلبية لتورّطها في الحرب الأميركية العسكرية والاقتصادية ضدّ روسيا على المسرح الأوكراني. لكنّ هذا التغيير جاء على خلفية توقعات اقتصادية قاتمة، والتهديد بحرب تجارية مع الولايات المتحدة – في حال تولّي الرئيس دونالد ترامب مهامّ منصبه في الـ20 من كانون الثاني المقبل -، كما تزايُد احتمالات تصاعُد الصراع في أوكرانيا، والاضطرابات السياسية في أماكن أخرى من أوروبا، بما في ذلك أزمة سياسية تمسك بخناق فرنسا – التي كلّف رئيسها للتوّ، رابع رئيس وزراء هذا العام بتشكيل حكومة لا تتوفّر لها ضمانات بنيل ثقة برلمان منقسم بشدّة؛ علماً أن فرنسا تمثّل إلى جانب ألمانيا أثقل قوتين في منظومة الاتحاد الأوروبي التي تضمّ 27 دولة، وتواجه تحدّيات إستراتيجية عديدة خلال المرحلة الحالية.
وبحسب أحدث استطلاعات الرأي، فإن شولتس وحزبه “الاجتماعي الديمقراطي” – أقلّه في الوقت الحالي لو أجريت الانتخابات غداً -، لا يمتلكان أيّ فرصة حقيقية للعودة إلى السلطة بعد شباط المقبل، بعدما تسبّب الأداء السيّئ للحكومة الائتلافية على مختلف المستويات، بتراجع شعبية مكوّناتها لمصلحة صعود أحزاب المعارضة اليمينية.
في المقابل، تبدو حظوظ حزب “الاتحاد الديمقراطي المسيحي” عالية لقيادة البلاد تالياً، لكن ميله إلى عدم التعاون مع حزب “البديل من أجل ألمانيا” (أكبر أحزاب أقصى اليمين، والذي وضعته الاستطلاعات في المركز الثاني بقاعدة تأييد تكاد تصل إلى خُمس مجموع الأصوات)، قد تحتّم على “الديمقراطيين المسيحيين” بناء ائتلاف حاكم مع أحزاب الوسط ويسار الوسط.
وستخوض الحملة الانتخابية سبعة أحزاب تتوفّر على فرص واقعية للفوز بمقاعد البرلمان الـ733، فيما يبدو مرجّحاً أن يتولّى زعيم “الاتحاد الديمقراطي المسيحي” المعارض، فريدريك ميرز، منصب المستشاريّة، خلفاً لشولتس، مع فرص أقلّ بشكل ملحوظ لقادة الائتلاف الحاكم الحالي: شولتس، وكذلك وزير ماليته السابق كريستيان ليندنر، وروبرت هابيك وزير الاقتصاد والمرشح الرئيسي عن حزب “الخضر” (يسار الوسط).
تبدو حظوظ حزب “الاتحاد الديمقراطي المسيحي” عالية لقيادة البلاد تالياً
وفي الحقيقة، فإن هذا التطوّر الأحدث في برلين لم يكن مفاجئاً لأحد، وعدّه كثيرون بمثابة استحقاق تأخّر كثيراً، إذ لم يكن الائتلاف الذي يقوده شولتس مستقرّاً في أيّ وقت، بالنظر إلى تعارض توجّهات مكوّناته منذ البداية. وكان “الحزب الاجتماعي الديمقراطي” قد اضطر، بعد انتخابات عامة غير حاسمة في عام 2021، إلى الدخول في تحالف مع “الديمقراطيين الأحرار” – بزعامة الوزير المقال ليندنر – و”الخضر”، كي يمكن لحكومة يشكّلها شولتس نَيْل ثقة البوندستاغ. وأُعلن عن الحكومة وقتها، في ظلّ أجواء من التفاؤل، وأَطلقت على رغم الخلافات العميقة بين مكوّناتها، برنامجاً تقدّمياً يَعِد ببداية جديدة لألمانيا بعد فترة من الجمود الاقتصادي في نهاية عهد المستشارة السابقة أنجيلا ميركل، وتعهُّد شولتس بأن سياسة التحوّل الأخضر ستجلب “معجزة اقتصادية” جديدة للدولة التي تُعدّ قاطرة الاتحاد الأوروبي برمّته، وتنبّأ للمواطنين بتحقيق معدلات نمو لم تشهدها البلاد منذ سنوات التعافي من الحرب في خمسينيات القرن العشرين.
على أنه تمّ تجاوز تفاوت التوجهات السياسية لمكوّنات الحكم عبر إنفاق الأموال العامّة، إذ أراد “الاجتماعي الديمقراطي” تدعيم منطق دولة الرفاه التي اعتاد عليها الألمان، وأراد “الخضر” اتخاذ إجراءات جذريّة في شأن تغيُّر المناخ، فيما كان “الديمقراطيون الليبراليون” مهووسين بمنع ألمانيا من التورط في الديون وتجنيب الأجيال القادمة متاعب العيش في ظلّها. وكان ممكناً، في الأشهر الأولى من عمر الحكومة، التوفيق بين هذه المتعارضات فقط من خلال رمي الأموال عليها. لكنّ فترة التعايش هذه انتهت سريعاً، بسبب العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا في شباط 2022، لتخرج كل خطط الحكومة عن مساراتها، وتجد نفسها تناضل لإدارة اقتصاد البلاد بعد فقدان إمدادات الغاز الروسي الزهيد الثمن الذي ظلّ طوال عقود سرّ التنافسية الاقتصادية الألمانية، ومنصّة تمكين صناعاتها على التصدير الكثيف.
لقد اضطر شولتس ووزراؤه إلى الخضوع لتوجّهات الولايات المتحدة، وانخرطوا في حرب اقتصادية شاملة ضدّ روسيا، تضمّنت استبدال إمدادات الطاقة من موسكو ببدائل مكلفة، وتراجعوا عن خططهم للانتقال إلى الطاقة الخضراء لمصلحة تمديد عمر المحطّات النووية واستخدامات الفحم الحجري، كما أعادوا توجيه الدفاع الألماني والسياسة الخارجية من خلال إطلاق برنامج هائل للتسلّح بغرض تغيير عقيدة الجيش الألماني من الدفاع إلى قوّة هجومية، وإمداد نظام كييف اليميني بمعونات مالية وعسكرية بمليارات اليوروهات. ومع تبخّر الأموال، وتزايد فرص فرض تعرفات جمركية على الصادرات الألمانية للسوق الأميركية إثر إعادة انتخاب الرئيس ترامب في تشرين الثاني الماضي، فإن تلاقي مكوّنات الائتلاف الحاكم على الخضوع للرغبات الأميركية لم يَعُد كافياً لرأب الخلافات بينها حول منهجية إدارة شؤون البلاد، ولا سيما أن التذمّر الشعبي من عجز الحكومة، اتّسع إلى درجة أن أحزاب الائتلاف سُحقت تماماً في الانتخابات الإقليمية في شرق ألمانيا لمصلحة الأحزاب الشعبوية الهامشية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، وهذا كله جعل استمرار حكومة تشولتس مضيعة تامة للوقت.
ومن المرجّح أن تهيمن على الحملات الانتخابية قضايا عديدة، أقلقت الناخبين الألمان خلال سنوات حكم الائتلاف المنهار: إنعاش الاقتصاد المتعثّر، وسدّ الفجوات الاجتماعية المتزايدة بين الطبقات، ومخاوف الناخبين في شأن الهجرة، وتدعيم الاستقرار الأمني للبلاد في ظلّ اضطرابات الإقليم، من دون أن يمتلك أيّ من الأحزاب طروحات أيديولوجية محدّدة لضمان تحقيق تحوّلات بنيوية في بنية الدولة والاقتصاد والمجتمع، ما يشير إلى أن أزمة النخبة الرأسمالية الألمانية مرشّحة للاستمرار لسنوات مقبلة.