الحراك القطري يتقدّم… هل أجهضت “الخماسية” حوار برّي؟!

حين غادر الموفد الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان لبنان قبل أيام، أوحى بـ”تفاؤل” استغربه من واكبوا جولته الثالثة، التي كان يفترض منطقيًا أن تكون “ثابتة” بالمعنى السلبي، أي أن تكون بمثابة “زيارة وداعية” يعلن بموجبها فشل المسعى الذي قاده لتقريب وجهات النظر بين الأفرقاء، ويقول إنّه أدى قسطه للعلا وحتى الرمق الأخير، وربما يكرّر المقولة التي اشتهر فيها منذ كان وزيرًا للخارجية، حين خاطب ساسة لبنان قائلاً: “ساعدوا أنفسكم لنساعدكم”.
لكن التفاؤل المُستغرَب، الذي دفع لودريان إلى ضرب موعدٍ لزيارة رابعة، ذهب البعض لتحديد توقيتها قبل نهاية الشهر، مستنتجًا أنّها قد تشهد على الحوار الموعود والمنتظَر منذ أشهر طويلة إن جاز التعبير، كان مبنيًا بحسب انطباعات العارفين والمتابعين، على “رهان” كان لديه بالحصول على “دفع معنوي” في اجتماع المجموعة الخماسيّة المعنيّة بلبنان، والذي عقد على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك.
ومع أنّ الاجتماع عقد بالفعل، إلا أنّ نتائجه جاءت “مخيّبة” للوسيط الفرنسي، الذي لم يحصل منه على ما كان يتوخّاه، بل إنّه أدّى إلى “إرباك ما بعده إرباك” ليس للفرنسيّين فحسب، بل لكلّ أطراف “الخماسية” التي تضمّ ممثلين عن الولايات المتحدة والسعودية وقطر ومصر إلى جانب فرنسا، وهو ما تُرجِم بعدم صدور بيان بالمطلق عن الاجتماع، في ظلّ تقارير تحدّثت عن “تباينات واختلافات” حول المسار العام للأمور.
وانعكس هذا “الإرباك” في الداخل اللبناني، فرئيس مجلس النواب نبيه بري غمز من قناة أنّ أطراف “الخماسية” باتوا بحاجة لمن “يتوسّط” فيما بينهم، فيما ذهب رئيس “الحزب التقدمي الاشتراكي” وليد جنبلاط بعيدًا في انتقاداته، لدرجة التساؤل عمّا “تريده السعودية”، ما يفتح الباب أمام العديد من علامات الاستفهام، فهل أجهضت “الخماسية” مبادرة لودريان عمليًا، ومعها حوار بري المُنتظَر؟ وما حقيقة الحديث عن أنّ باريس سلّمت “الراية” إلى الدوحة؟!.
في المبدأ، يؤكد العارفون وجود “تباينات” بين أطراف المجموعة الخماسية بشأن لبنان حول كيفية التعامل مع الأزمة اللبنانية، وهي اختلافات يدركها القاصي والداني وليست مستجدّة، وقد ظهرت جليًا في الاجتماع السابق الذي عقد في العاصمة القطرية الدوحة قبل أسابيع، وإن أرسى وقتها ما يمكنه وصفه بـ”التوازن” بين الدبلوماسية التي يريدها الفرنسيّون، والتصعيد الذي يميل له غيرهم، وهو ما فُهِم حينها من التلويح بإجراءات ضدّ معطّلي انتخابات الرئاسة.
في الواقع، يتحدّث العارفون عن “معسكرين” وربما أكثر داخل “الخماسية”، تقود باريس أحدهما، وهي التي تسعى منذ أشهر لإحداث “خرق” في لبنان، من دون أن تنجح مساعيها في تحقيق ذلك حتى الآن، ويقوم “جوهر” مبادرتها على ضرورة مساعدة اللبنانيين على التوافق والتفاهم من أجل انتخاب رئيس للجمهورية، علمًا أنّها جرّبت في سبيل ذلك أكثر من “تكتيك”، من “المقايضة” بين رئاستي الجمهورية والحكومة، إلى الحوار غير المشروط، ولو بأسماء “حركيّة”.
في المقابل، وبما قد يُعَدّ “تناغمًا” مع مواقف الأطراف اللبنانية المتحفّظة على الحوار والرافضة لمندرجاته، يرى فريق آخر داخل “الخماسية” أنّ المسعى الفرنسيّ لم يعد مفيدًا، وأنّ ورقة “التفاهم” قد لا تكون كافية لإنجاز الاستحقاق الرئاسي، ويرفض هؤلاء بالحدّ الأدنى أن تُمنَح باريس مهلة “مفتوحة” لتحقيق أهدافها، علمًا أنّ بينهم من يتوجّس أصلاً من حوار “مفتوح” هو الآخر، قد يحقّق لـ”حزب الله” أهدافًا لا تبدو بدورها خافية على أحد.
وإذا كان اجتماع “الخماسية” الذي انتهى إلى تباين وانقسام، بحسب كلّ التسريبات والمعطيات المتوافرة، لم يفضِ، أقلّه حتى الآن، إلى “نعي رسمي” للمبادرة الفرنسيّة، فإنّ العارفين يعتقدون أنّه “صعّب الأمر” على لودريان، بل أنّه أنهى عمليًا مسعاه، ومعه “حوار الأيام السبعة” الذي ما عاد عقده “بمن حضر” خيارًا واقعيًا، بعدما بات أول المؤيدين له، رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل، رافضًا “مضمرًا” له، باعتباره “حوارًا تقليديًا”.
في مقابل إجهاض المبادرة الفرنسية، ومعها حوار بري، يبدو أنّ حراكًا آخر بدأ يتقدّم، تقوده قطر، الذي يقول البعض إنّها تقف “في المنطقة الوسط” بين معسكري “الخماسية”، فلا هي تريد الإيحاء بأنّ دورها يأتي “على نقيض” الدور الفرنسي، ولا هي ترى مصلحة في القول إنه يأتي “مكمّلاً له”، أو حتى “متناغمًا معه”، ولو أنه قد ينطلق ممّا انتهى إليه لودريان، وهو “طيّ صفحة” المرشحين السابقين المُعلَنين، وفي مقدّمهم رئيس تيار “المردة” سليمان فرنجية.
في الواقع، يقول العارفون إنّ الدور القطري على خط الأزمة الرئاسية اللبنانية ليس بجديد، فالجهود التي لعبتها الدوحة تعود إلى أشهر طويلة، منذ أيام تنظيمها بطولة كأس العالم في كرة القدم، بدليل “انفتاحها” على الوزير السابق جبران باسيل، في أكثر من مناسبة، علمًا أنّ حركة الموفدين القطريين من وإلى لبنان بقيت “نشطة” طيلة الفترة الماضية، كما أنّ تعيين سفير جديد في ذروة الشغور الرئاسي لا يبدو بدوره خطوة “هامشية” في هذا السياق.
ومع أنّ هناك من يربط الدور القطري باسم قائد الجيش العماد جوزاف عون، الذي تشير بعض الأوساط إلى أنّه “مرشح الدوحة” منذ اليوم الأول، والذي بات أطراف “الخماسية” أقرب إليه من الطرح الفرنسي، فإنّ العارفين يعتقدون أنّ الخيارات “غير محدودة”، وأنّ ثمّة أكثر من اسم قد تنطبق عليه المواصفات المطلوبة، ولو أنّ “أسهم” قائد الجيش قد تكون الأعلى في “حراك” الدوحة حتى الآن، رغم أنّها لا تزال تصطدم بـ”فيتو” باسيل بالدرجة الأولى.
استنادًا إلى ما تقدّم، يبدو أنّ “التعقيد” لا يزال سيّد الموقف في المشهد الرئاسي اللبناني: في الداخل، اتفاق على اللا اتفاق حتى إشعار آخر، وهو ما ينعكس على الخارج أيضًا، فأطراف “الخماسية” تشتّتوا وانقسموا، ولو أنّهم لم ينهوا المبادرة الفرنسية بعد بشكل رسميّ، فيما الدور القطري الذي يتقدّم، لا يزال بحاجة لعناصر أساسيّة تجعله يرتقي لمستوى المبادرة، بعيدًا عن “تكرار” نموذج تلك الفرنسية، وما انتهت إليه من تخبّط.
لعلّ “الرسالة” خلف كلّ ذلك، تبقى تلك التي على اللبنانيين أن يتلقّفوها قبل غيرهم، فالكرة كانت ولا تزال وستبقى في ملعبهم، فالخارج ليس قادرًا على “فرض” الرئيس عليهم، ولا هو قادر حتى على “اختياره” نيابة عنهم، وبالتالي فإنّ “التعويل” عليه قد لا يكون في مكانه، إن لم يبادروا هم بالدرجة الأولى، إلا إذا كان هناك من لا يزال “أسيرًا للماضي” حين كانت “كلمة السرّ” تأتي من الخارج، فينزل النواب للتصديق عليها، ليس إلا!.